الاثنين، 14 يناير 2013

اللص والكلاب

رواية: اللص والكلاب
المؤلف: نجيب محفوظ
ب. النشر: مكتبة مصر
التقييم: 5/5

* * *

بطل الرواية سعيد مهران
"ما حياته إلا امتداد لأفكار هذ الرجل.."
وهذا الرجل هو رءوف علوان: "الحقيقة العارية، جثة عفنة لا يواريها تراب، أما الآخر فقد مضى كأمس أو كأول يوم في التاريخ أو كحُب نبوية أو كولاء عليش. أنت لا تنخدع بالمظاهر فالكلام الطيِّب مَكر والابتسامة شفة تتقلص والجود حركة دفاع من أنامل اليد ولولا الحياء ما أذن لك بتجاوز العتبة. تخلقني ثم ترتد، تغير بكل بساطة فكرك بعد أن تجسد في شخصي، كي أجد نفسي ضائعًا بلا أصل وبلا قيمة وبلا أمل، خيانة لئيمة لو اندك المقطم عليها دكًا ما شُفِيَت نفسي.."
رءوف علوان..
هو الخدعة والخيانة في حياة سعيد مهران، سعيد الذي هرب واختبئ من أجل الانتقام، لكنه للآسف فشل، فشل في الانتقام من مثله الأعلى، مِن مَن دفعه دفعًا إلى الجريمة ثم تنصل منه، من قال له "المسدس أهم من الرغيف يا سعيد، المسدس أهم من حلقة الذِكر التي تجري إليها.." .. يتحول سعيد طول الرواية إلى شخص مطارد، يعترف في منتصف الأحداث "أنا الشيطان نفسه"

أحداث الرواية تُحكي من طرفان منسجمان تمامًا (المؤلف، وبطل الرواية سعيد مهران).. المؤلف يسرد لنا حركة وسير الأحداث وطبيعة الحاضر، ثم يتخلل السرد -ودون انزار مُسبق-حديث سعيد بينه وبين نفسه ورؤيته للأحداث المحيطة به وكلماته الانتقامية التي كان من الجيد أن اسمعها من سعيد بنفسه لا من راوي الأحداث.

باقي شخصيات الرواية (بخلاف رءوف):
(الشيخ علي الجنيدي، نور، عليش، نبوية، سناء، المعلم طرزان.. وبعض الشخصيات الثانوية مثل صبي المعلم طرزان، أبو سعيد وأمه، والشخصان اللذان قتلهما خطأ).

الرموز في الشخصيات جليِّة جدًا.. الدين، الشهوة، الخيانة، رفض المجتمع، العبث.. كلها معانِ تجسدت في هؤلاء الشخوص وجميعهم كانوا مُسخرين من أجل سعيد ومن أجل سير الأحداث بهذا الشكل.. منهم من يمثل ماضي سعيد مهران، ومنهم حاضره، ومنهم قدره وحظه العاثر..
الحوار الحقيقي في الرواية ما كان يدور بين (سعيد والشيخ علي)، وبين (سعيد ونفسه).. لم أجد حواراته مع نور مُجدية أو بها جديد. كانت نور -عشيقته- هي أمله الوحيد في البقاء الاستمرار فيما يخطط له، كانت سنده، وكانت حائط مهم يتكئ عليه بعد كُل عثرة، لكنه لم يكن يُطلعها على ما يخطط له، حتى مشاعره تجاهها كان بخيل فيها -إلا من بعض الكلمات القليلة المُسكِنة- لذلك لم أتعجب من اختفائها غير المفهوم في نهاية الاحداث عندما تركته وحيدًا، وربما لم تكن شخصية حقيقية بالفعل.

مشكلة سعيد مهران أنه مضطرب أمام الأخلاقيات، بمعنى أنه لا يجد حرج من كونه حرامي، ومن كونه يمارس الزنى دون حرج، وتفكيره في القتل والانتقام بلا مباله..إلخ. حقيقته لا تصدمه ولا تُنغص عليه، لكن أفعال الآخرين هي ما كانت تُربكه حقًا.. الخيانة قتلته، ذبحته، والخيانة فعل قبيح لا يقل قُبحًا عن القتل والسرقة.. حتى أنه عندما قتل شخصان عن طريق الخطأ لم يأسف لهما، لكنه أسف على حاله، على كونه أخطأ ولم يُصيب الهدف .. ورغم ذلك عندما يغط في النوم يحلم بأنه يجلد نفسه في السجن. شعوره بالذنب على كل ما فعل لا يظهر بشكل صريح، يعافر، يرفض هذا الشعور بشدة، لا يُجاهرنا به، لكنه يتجلى في لاوعيه كما يظهر بشكل خبيث ومبتور بين السطور.. "قلبك المحترق يحن إلى الظل ولكن يمعن في السير تحت قذائف الشمس" هكذا قال له الشيخ علي.
وعندما شعر أن نور بدأت تلاوعه في الكلام وتكذب عليه أخبرها "لا تكذبي، إن من يعاني الظلمة والوحدة والانتظار لا يطيق الكذب"..
وعندما استرجع ذكرياته مع رءوف علوان "غلبته المرارة بعد اليأس فلم يعد يُبالي شيئًا... ثم قال فيما يُشبه التحدي: ما أجمل أن ينصحنا الأغنياء بالفقر.."
وعندما نكرته ابنته ونفرت منه وابتعدت عنه شعر بالغربة الحقيقية، رأى بعينه رفض المجتمع والعالم كله له في حركتها العصبية وهي بين يديه.

هاجس الموت كان له عامل مؤثر في شخصية سعيد، سعيد في نهاية الأحداث -ورغم مقاومته طول فترة هروبه- استسلم للشرطة بعد أن حاصرته وانتهى به الحال إلى الهزيمة واللامبالاة.. في فترة الاختفاء كان يسكن مع نور في منزلها بالقرافة، كان يرى الموت في كل لحظة، الموت ساكن خامد.. الموت جاء صباحًا في نعش جديد وجثة جديدة ستُدفن.. كل هذا انعكس سلبًا عليه، شعر بالوحدة والانقباض، كان على أثر ذلك يهرب من المنزل -رغم خطورة الهروب- ويعود ليواجهه الوحدة والموت وصور قتلاه مرة أُخرى.. "لكي يكون للحياة معنى وللموت معنى يجب أن اقتلك.. لتكن أخر غضبة أطلقها على شر هذا العالم، وكل راقد في القرافة تحت النافذة يؤذيني، ولأترك تفسير اللغز للشيخ علي الجنيدي" هكذا قالها بصراحة وثقة.

أشرت في السابق إلى الرمزية  التي استعملها محفوظ مع أبطال الرواية، وتفسير الاقتباس الأخير يُبرهن لنا إلام يقصد محفوظ بشخصية (الشيخ علي الجنيدي).. الشيخ علي الذي لم يُعنف سعيد في النهاية بعد أن ارتكب جرائمه، بل أخذ يُردد على سمعه بثبات واتزان الآية القرآنية "إن هي إلا فتنتك".


أبطال روايات نجيب محفوظ دائمًا مميزين، حتى الرجل العادي منهم تجد له سماته المميزة.. بطلنا هُنا مُجرم، لا يبدو على شخصيته الإضطراب أو عدم العقل، إنه مثل الظواهر الكونية التي لا تفهم غايتها، يُثير البلبلة والأحداث لكنه في النهاية لا يرى أن الجريمة ستفيده في شيء.. أصبح مع الوقت لعبة في أيدي الخدع ويمضي كأشباح القبور في الظلام.. إلا اللانهاية..


الثلاثاء، 8 يناير 2013

المرأة في مصر المملوكية



الكتاب: المرأة في مصر المملوكية
المؤلف: أحمد عبد الرازق
الطبعة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1999
...
عنوان الكتاب خير دليل على موضوعه وعلى والحقبة الزمنية ( المرأة + العصر المملوكي). نُشرت هذه السلسلة قبل هذا الكتاب "المرأة في مصر الفاطيمة".. لست متأكده من وجود سلائل أخرى لهذا الحصر التاريخي أم لا.
الدولة المملوكية استمرت قرابة قرنين ونصف (648- 1250 هـ) حيث انتقل وقتها مقر الخلافة الإسلامية من بغداد إلى القاهرة، لهذا تعتبر فترة مهمة في تاريخ مصر.  البُعد الزمني الكبير يحول دون توافر قدر كبير من الوثائق والمستندات التي تُأرشف لهذه الحقبة، فكما هو واضح من حواشي الكتاب أن أهم المصادر التي اعتمد عليها المؤلف هي مؤلفات "تغري بردي" و "ابن حجر العسقلاني" و"المقريزي" وغيرهم الكثير..
الكتاب مُكون من 6 فصول، يتحدث عن مكانة المرأة في المجتمع، وفي الحياة العامة، والزواج، والأسرة..

في الفصل الأول يعترف المؤلف -صراحةً- أن الشريعة الإسلامية فرقت بين الرجل والمرأة في بعض الحقوق (كالأرث ومسألة الشهادة) إلا إنها أعطتها العدالة الكاملة في حقها في المجتمع الإسلامي بأن صانها وحفظ مكانتها في المجتمع (رغم أنه كان يوجد جواري وهذا أمر مُذل ومهين أن تُباع النساء وتُشترى ويُحسب هذا على أنه عدالة كاملة)..
يتجلى لنا من النظرة الأولى أن المرأة في ذلك العصر تمتعت بقسط كبير من الاحترام والتقدير وأن المماليك كانوا يكنون لزوجاتهم كل الإجلال والمودة.. ويتجلى هذا في كل الهيلامانات التي تحدث لو أن أم السلطان مثلاً ذهبت إلى الحج، أو أن زوجة السلطان مثلاً قررت أن تذهب إلى "بولاق" للفُسحة ومشاهدة النيل.. وأن الجواري كانت مكانتهم محفوظة ولا يتعرضن للأذى.. ولكن في النهاية أم السلطان هي مجرد "أمه" واسمها مُلتصق بلقبه، وزوجة السلطان هي مجرد "زوجته" والجواري مجرد "جواري السلطان".. هذا هو دور المرأة في العصور الوسطى.. أشياء تابعه للسلطان، مجرد "حاجات السلطان".
تمتعت المرأة -كما تشير المصادر التي اعتمد عليها المؤلف- في هذه الحقبة تحديدًا بمزيد من الحريات لم تكن تمارسها من قبل، فمثلاً كانت النساء تشتغلن بالفقه، والحديث، وتحفيظ القرآن، فكان هناك "نِساء فقيهات" وهذه أشياء حديثة العهد على المرأة بالتأكيد، كما انهن كُن يحرصن على الذهاب للمجالس العلمية والذهاب إلى دروس الدين (منفصلات عن الرجال طبعًا كما هو الحال الآن) وكانت هناك أسماء بارزه لهن في هذا المجال -ولكن بالتأكيد المساحة الأكبر كانت أمام الرجال في هذا المجال-.. كما أن بعضهن اتجهن إلى التصوف وارتداء الخرقة وزهد الحياة الدنيا وهو أمر نادر في العصر الحالي على سبيل المثال.
كانت الأسواق مفتوحة أمام النساء، كن يذهبن بحرية كاملة لقضاء حاجتهن، وكن يذهبن للحمامات العامة.. كن يمارسن حياة طبيعية، لكن في حِمى الرجل من أب أو أخ أو زوج.
من ضمن ما ورد في فصول الكتاب أن بيوت الدعارة وممارسة البغاءكانت موجودة بدون أدنى مشاكل، وكانت تُرخص لهن، وكن يدفعن الضرائب، ولم يُحرم الرقص أو الغناء أو ضرب الطبول أو غيره.. وكان يوجد مغنيات معرفات بالاسم يطرب لهن السمع ومشهورات في مجالس الطرب والسمع (الذكورية) فلم يرد مثلاً أن المرأة كانت تخرج إلى مجالس الطرب لسماع الغناء مثلها مثل الرجل، وهذا يُبيِّن بشكل واضح أن المرأة لم تتمتع بكامل حريتها، حتى وإن كانت يُسمح لها بممارسة البغاء  أو الغناء في مجالس لغناء، كأنها سلعة.. وكله بما يعود بالنفع على الرجل ومتعته الشخصية. وبالنظر إلى المساحة المتاحة للمرأة في العمل في (الفقه ودراسة الدين) وبين (ممارسة البغاء علنًا) فإن هذا يعكس التناقض البيِّن في المجتمع في هذا العصر -وإلى وقتنا هذا-.
الفصل الأهم في الكتاب كان الخاص بنفوذ المرأة وتدخلها في أمور الحكم والسلطة، وذُكر هنا أسماء بعينها مثل: شجرة الدر، بركة خان أم السلطان سعيد، خوند أشلون أم السلطان الناصر محمد بن قلاوون.. وغيرهن، فقد قامت الأخيرة مثلاً عام 693هـ بالخروج إلى رجال الدولة ومناقشتهم في أسباب حصارهم في القلعة..
كان نفوذ المرأة في هذه الأمور يُحفذه بالأخص سلطتهم المالية الفائقة وتقديم الرشوى والهدايا القيمة من أجل تنصيب فلان وعزل فلان في مقابل تعيين فلان أخر، وأُخمن في هذا الصدد أن أسباب هذا قد تكون علاقات نسوية أيضًا، بأن تتودد إحدى الأميرات إلى أم السلطان مثلاً من أجل تعيين زوجها أو ابنها في منصب ما.. وفي الأغلب هذه السلطة تكون في يد أم السلطان أكثر من زوجاته (ونستثني هنا شجرة الدر).. وهنا قال ابن تيمية في كتابه مجموع فتاوى "أكثر ما يفسد الملك والدولة طاعة النساء".
ثم يأتي تسليط الضوء على دور المرأة كزوجة في عصر المماليك، بالأحرى هي لم تكن أي شيء سوى زوجة، هي فتاة مطيعة في بيت أبيها، تأتيهم الخاطبة ذات صباح لتُخبرهم أن فلان يريد أن يتزوج ابنتكم، وهنا تعرف الفتاة بالأمر بعد موافقه أبيها ثم موافقه أمها -والتي لا تخالف رأي الأب بالتأكيد- ثم تُصبح الفتاة -بدون إبداء أي رأي من طرفها- زوجة رجل غريب لا تعرف ولم تراه من قبل، لها حقوق وعليها واجبات.. هذه العادة معروفة وهي القشة الحقيقية التي فرضها العُرف -لا الدين- لكي تُضعف وتُقلل من شأن المرأة وحقها البسيط في تقرير مصيرها، لكنها منذ صغرها -بالتأكيد- تُربَّى على أنها خُلقت لتنتظر "الزوج"وأن تكون "زوجته" دون أن يُترك لها حتى مساحة للتفكير في إن كانت ترغب في هذا أم لا.
نقطة مهمة ذكرها المؤلف وهو موقف المرأة من الزواج بعد وفاة زوجها او بعد طلاقها مثلاً، وهو أن المرأة كان يجب عليها أن تتزوج لكي تشعر بالأمان والرعاية، فمن يرعاها لو توفي زوجها؟ من يهتم بأمورها ويُنفق عليها وعلى أبناءها؟.. قليلات -وذُكرن بالاسم- من رفضن الزواج بعد وفاة ازواجهن وكان هذا من باب الاخلاص لأزواجهن، كما انهن كُن سيدات ثريات ولا يحتجن من يُنفق عليهن.
يُلخص هذا بوضوح ضعف المرأة وحاجتها دائمًا إلى رجل، ولا أرى أن هذا يمت للحريات بصلة، فالحرية قوة، والإستكانه ضعف واستعباد.
ثم يتناول المؤلف زينة المرأة وحُليها وذهابها إلى الحمامات العامة وغيرها من الأشياء المُشابهه، وقد أفرد هذا في فصل كامل (كأن هذه هي وظيفة المرأة الوحيدة وشغلها الشاغل الوحيد).
لم يتناول المؤلف مسألة تعليم المرأة، وهل كانت إلزامية أم لا؟ ولم يتناول ما طبيعة الأعمال التي كانت تشغلها النساء؟ وهل كان للمرأة لها دور مُؤثر -بشكل جذري وملحوظ- خارج جدران بيتها؟
الكتاب شيق ولغته سهلة وكان ينقصه فقط بعض النقاط -التي ذكرتها- التي لم يتناولها.. سأُثني على البداية الطيِّبة "لا شك في أن رُقي أي مجتمع من المجتمعات يُقاس دائمًا بمدى تقدير ذلك المجتمع للمرأة.." وأنا أُضيف على ذلك "تقديرًا حقيقيًا ينبع من حاجة أساسية لمشاركة المرأة، وليست مجرد مشاركات صورية لا تنتهي إلى شيء حقيقي وأصيل".

8/1/2013