الأحد، 3 مارس 2013

اقتباسات من "المصباح السحري" لإنجمار برجمان (سيرة ذاتية)

المصباح السحري
إنجمار برجمان 
منشورات وزارة الثقافة بسوريا، 1994


ارتبطت نشأتنا بمفاهيم الخطيئة والإعتراف والعقاب والغفران وصلاة المائدة.. عوامل قاسية حكمت العلاقات بين الأبناء والآباء والله. كان ثمة منطق فطري في كل ما نتلقاه ونعتقد أننا فهمناه، وربما ساهمت هذه الحقيقة في تقبلنا المدهش للنازية. لم تكن قد سمعنا بالحرية ولم نذق طعمها أبدًا.. ففي النظام الكهنوتي تكون الأبواب موصدة تمامًا. لهذا كان العقاب أمرًا بديهيًا لا يجوز التساؤل بصدده. أحيانًا يكون سريعًا وبسيطًا مثل صفعة على الوجه او ضربة على المؤخرة، وأحيانًا أُخرى يكون بالغ التعقيد ومتوارثًا عبر الأجيال.
*
أعتقد أن أحوالي تحسنت عندما أصبحت كاذبًا، وأوجدت شخصًا إضافيًا في داخلي لا يشترك مع حقيقتي إلا بالشيء القليل، بعدها لم أتمكن من الفصل بين ذاتي وهذا الشخص، الأمر الذي ترك أضرارًا لاحقة على حياتي وإبداعي في مرحلة النضج. أحيانًا أكون مضطرًا إلى مواساة نفسي بحقيقة أن الإنسان الذي عاش كذبة يُحب الحقيقة.

*
حاولت أن أنتقم من صديقي السابق الذي أفشى سري فسرقت سكين شقيقي وطاردته وهو يفرّ أمامي ويدور حول بناء المدرسة، وعندما القت المعلمة بنفسها لتفصل بيننا حاولت أن أقتلها.
*
أذكر أنني لم أستوعب مفهوم الزمن.. قيل لي: “يجب أن تتعلم كيف تكون دقيقًا في مواعيدك، لقد أعطيت ساعة يد ويجب أن تخبر الوقت بدقة”. لكن الزمن يتوقف بالنسبة لي، شيء ما يُخبرني أني جائع، وسرعان ما يحدث شجار.
*
كان يصعب تمييز الخيال عن الحقيقة، فعلت كل ما بوسعي وربما كان من الممكن الإبقاء على الواقع كحقيقة. ولكن ماذا أفعل بالأشباح والأطياف وقصص البطولة القديمة؟! أهي حقيقة؟ الرب والملائكة؟ المسيح؟ آدم وحواء؟ الطوفان؟ وحقيقة ما حدث بين إبراهيم واسحاق؟ هل كان إبراهيم سيُذبح حقًا؟ وأنظر برعب فأتعرف على اسحاق في نفسي، هذه كانت الحقيقة. الأب يريد أن يجز عنق انجمار.. ماذا سيحدث لو تأخر الملاك؟ سوف يبكون، ويسيل الدم، وانجمار يبتسم بكآبة.. إنها الحقيقة.
*
أنا لا أُشارك في الدراما أبدًا بل أحولها وأجعلها صلبة، والأهم من ذلك كله أنني لا أملك حيزًا لعُقدي الذاتية، ولكن مفاتيح لأسرار النص والسيطرة على نبضات إبداع الممثل. أكره الشغب والعدوانية والعواطف المتفجرة بلا حساب. إن البروفات التي أُجريها بمثابة عمليات للمقدمات واستعداد للهدف حيث يجب أن يسود النظام الذاتي والنظافة والهدوء. إن البروفات عمل لائق وليس معالجة خصوصية للمنتج أو الممثل.
*
قالت لي: “الشيء الوحيد الممل فيك يا انجمار برجمان هو ولعك بالأشياء الصحيحة والمفيدة. يجب أن تتخلف عن هذا الولع فهو ولعك وهم مشكوك به، وسوف يخلق أمامك عقبات لن تجرؤ على تجاوزها. بجب أن تتصرف كالدكتور فاوست عند توماس مان، وتبحث عن عاهرة مصابة بالسفلس”.
*
الصبر والمرح، الضحك عوضًا عن الشجار، هكذا تمضي الأمور على نحو أسرع لكنها تبقى مؤلمة.
**
إن العالم يهتز ويتداعى ونحن نغمغم بفضول داخل الحيطان السميكة لهذا البناء. إنه عالم صغير من الفوضى المزعجة، من الصناعة، من المهارة والحب. وهذا كل ما نعرفه.
**
لم يكن قراري بالتخلي عن الكاميرا السينمائية مأساويًا، وقد خلصت إليه بعد العمل على فيلم (فاني وألكسندر). ولا أدري إن كان جسدي يتحكم بروحي أم أن روحي تؤثر على جسدي، لكنني وجدت شيئًا فشيئًا أنه بات من الصعب جدًا التغلب على حالة الإرهاق الجسدي التي أصابتني.
…. ومع الإرهاق أصبحت أكثر تحذلقًا وتذمرًا ومللاً، واحتدت مشاعري فصرت أرى الأخطاء في كل مكان.
**
وعلى مدى السنوات علَّمت نفسي أن أتحكم بهذه المتاعب بحيث أستطيع الاستمرار بالعمل دون أن يبدو عليَّ أي إضطراب. كان الأمر يشبه إيواء شيطان شرير في أكثر مناطق الجسد حساسية.. وبواسطة أنظمة صارمة كان يمكن السيطرة على هذا الشيطان وكانت قواه تتقلص بدرجة ملحوظة عندما كنت أقرر أنا بنفسي، وليس هو، ماذا يجب عليَّ أن أفعل؟.
**
في بعض الأحيان ألاحظه بوضوح، وأراه متجسدًا، هذا المخلوق الذي نصفه وحش ونصفه الآخر إنسان، والذي يتحرك في أعماقي وأوشك أنا على ولادته. لقد قررت أن أتقاعد قبل أن يرى الممثلون ومن يعملون معي هذا المخلوق المُرعب، فينظرون إليّ بنفور أو بشفقة. لقد رأيت عددًا كبيرًا من زملائي يسقطون في الحلبة مثل مهرجين مرهقين، بانوا يشعرون بالسأم من بلادتهم، وقد قتلهم صمت الآخرين اللبق أو استهجانهم، فدفع بهم بعيدًا عن الأضواء بأيدٍ لطيفة أو قاسية.
**

إن الإبداع في الشيخوخة أمر غير مضمون، ولكنه مشروط ومرحلي، ويكاد يُشبه إلى حد كبير عملية جنسية منحطة.
**

عندما لا يكون الفيلم وثائقيًا فإنه حلم.. ولهذا فإن تاركوفسكي هو أعظمهم على الإطلاق. إنه يتحرك بحرية مطلقة في عوالم الأحلام دون ان يقدم شروحات. وماذا عليه أن يشرح أساسًا؟ إنه قادر على إخراج رؤياه بطريقة غير شائعة، لكنها في متناول الجميع. كل حياتي أمضيتها وأنا أدق أبواب الغرف التي كان تاركوفسكس يتحرك داخلها بحرية وطبيعية، وقد استطعت  أن أدخل إليها أحيانًا، لكن معظم جهودي الواعية انتهت إلى فشل محرج، كما حدث في أفلام (بيضة الثعبان) و (اللمسة) و (وجهًا لوجه) وغيرها.
كذلك يتحرك فيلليني وكوروساوا وبونويل في العوالم نفسها مثل تاركوفسكي. أما انطونيوني فكان في طريقه إلى ذلك لكنه انتهى وتعقد نتيجة ملله الذاتي. أما ميليس فكان حاضرًا هناك على الدوام، فهو ساحر بمهنته.
الفيلم كالحلم، الفيلم كالموسيقى.. لا يوجد أي نوع من الفنون له قدرة الفيلم على النفاذ إلى ما وراء الإدراك العادي وملامسة العواطف في أعماق الروح. ارتعاش في عصب العين، أثر الصدمة: أربعة وعشرين لقطة مضاءة في الثانية يفصل بين كل واحدة منها خط أسود لا تستطيع العين التقاطه.
عندما أمرر شريط الفيلم لقطة لقطة على طاولة المونتاج ينتابني إحساس السحر الذي كان يراودني في طفولتي، في عتمة خزانة الثياب وأنا أدير ببطء لقطة وراء لقطة، فأرصد كل التغيرات التي تحدث، وما أن أدبر الآلة بسرعة حتى أرى الحركة.
ظلال الأشخاص الصامتين أو المتكلمين تتحرك دون مراوغة تجاه أكثر غرفي سرية، رائحة المعدن الساخن، الصور المرتعشة، خشخشة الصليب المالطي، ويدي التي تمسك بمقبض الباب.
**

)يتحدث بيرجمان عن حبه الأول): كان حبًا فوريًا وصاعقًا –تمامًا مثل روميو وجوليت- مع فارق وحيد بأننا لم نفكر في أن يلمس أحدنا الآخر، أو حتى يقبله.
**
مُحدثًا حبيبته الأولى: ” إن الموت مخيف لا تعرفين ماذا سيأتي بعده. أما تلك القصور التي تحدث المسيح عنها فأنا لا أؤمن بها. شكرًا، إنها ليست لي. إن الموت رعب لا مفر منه، ليس لأنه يؤلم، بل لأنه ملئ بأحلام موحشة لا يستطيع أحد أن يستيقظ منها.”
**

مرة أو مرتين في حياتي كلها روادتني فكرة الانتحار، وفي شبابي أقدمت على محاولة فاشلة، لكنني لم أنظر إليها بجدية. لقد كان فضولي عظيمًا وحبي للحياة قويًا وخوفي من الموت لا يتزعزع.
ومع ذلك فإن موقفي من الحياة يفترض وجود سيطرة مستمرة ولائقة على العلاقة بالواقع والتخيلات والأحلام. وعندما كانت تتعطل هذه السيطرة –وهو أمر لم يحدث لي من قبل حتى في طفولتي المبكرة- كانت انظمتي تصاب بالخلل وتتعرض هويتي للخطر، فأسمع صوت أنيني يشبه كلب جريح، نهضت من الكرسي وكنت على وشك أن أُلقي بنفسي من النافذة.
**

ياللجحيم! كيف بإمكاني أن أحصل على امرأة؟ أية امرأة؟ كان الجميع يتدبرون أمورهم ما عداي. أنا الذي كنت أمارس العادة السرية، أنا الشاحب، المتعرق، صاحب الهالات الزرقاء حول العينين، الضعيف القدرة على التركيز.
إلى جانب كل هذا، كنت نحيلاً، منكس الرأس، سريع الغضب، البادئ بالصراخ والشجار، سئ العلامات بالمدرسة ومتورم الأُذنين من العقاب.
لقد كانت السينما والمسرح هما ملاذيّ الوحيدين.
**

أكاد لا أتعرف على هذا الإنسان الذي كنته قبل أربعين عامًا، كانت محنتي عميقة وآلية القمع عندي تعمل بشكل فعال جدًا، وبصعوبة بالغة أستطيع الآن استحضار صور تلك المرحلة. عندما كنت أشعر بالخطر كنت أعض مثل كلب خائف. لم أثق بأحد ولم أحب أحدًا ولم أشتق إلى أحد. استحوذ الجنس علىَّ فكان يدفعني إلى خيانات دائمة وكانت تعذبني الرغبة والخوف والألم والإحساس بالذنب.
متحدثًا عن زوجته “غان”: كانت غان نموذجًا للعديد من النساء في أفلامي: كارين لوبيليوس في (انتظار النساء) آغذا في (الليلة العارية) ماريان في (درس في الحب) سوزان في (رحلة إلى الخريف) ديزير أرمفلد في (ابتسامات ليلة صيف (
وجدت مثيلة لشخصية غان في إيفا دالبك التي لا يمكن مقارنتها بأحد. فكلتا المرأتين استطاعتا تجسيد نصوصي الغامضة والتعبير عن حالات من الأنوثة التي لا تقهر، بطريقة لم أجرؤ على تخيلها قط.
**

إن تاركوفسكي يحرك كاميرته باستمرار في كل مشهد ويطير بها في كل اتجاه. كنت أعتقد أنها تقنية كريهة لكنها ستحل جميع مشاكلي.
**

أنا لا أؤمن بالله، وأعرف أن الأمر ليس بهذه السهولة فكل منا يحمل إلهًا في داخله.
**

عندما كنت صغيرًا وأنام جيدًا كانت تعذبني أحلام بغيضة: جرائم، تعذيب جسدي، اختناق، سفاح القربى، تدمير، غضب أهوج، أما اليوم ومع تقدمي بالسن فإن أحلامي تغيب عن ذاكرتي ولا أحتفظ عنها إلا بانطباعات ودودة ومريحة.
**

أحيانًا أحلم بإنتاج ضخم يضم مجاميع هائلة من الناس مع موسيقى ومشاهد ملونة، وأهمس لنفسي وقد تملكها إحساس بالرضى المطلق “هذا إنتاجي، وأنا الذي أبدعته”.
**

أشعر بأن الأشباح والشياطين ومخلوقات أخرى مجهولة الأسماء والعناوين لا تزال تحوم حولي منذ الطفولة.
**

لا يموت الإنسان نهائيًا ويبقى الميت ليزعج الأحياء.
**

الأشباح والشياطين، الأخيار منهم والأشرار يظهرون أمامي، يدفعونني، يثقبون خصيتي وينزعون قميضي. إنهم يتحدثون ويتهامسون. أصواتهم واضحة، كلماتهم غير مفهومة ولكن لا يمكن تجاهلها.
**

طول حياتي كنت أصارع العلاقة المعذبة مع الله. الإيمان ونقص الإيمان، العقاب، النعمة الإلهية والنكران، كل هذا كان حقيقيًا وإلزاميًا بالنسبة لي، وكانت صلواتي تفوح بروائح الألم والتضرع والثقة والكراهية واليأس. لقد تحدث الله.. لم يتحدث الله.. لا تشح بوجهك عنّي.
.. لقد ولدت دون سبب وتعيش بلا مغزى، العيش يمثل مغزاه الخاص، وعندما تموت فإنك تنطفئ وتسدد دنيا وسوف تتحول من كونك أنت إلى اللاشيء. إن الله لا يقيم بالضرورة وسط ذراتنا ذات الطابع الهوائي.
هذا التبصر حمل معه شيئًا من الطمأنينة التي قضت على إحساسي بالألم والاضطراب، ومن ناحية أخرى فإنني لم أنكر أبدًا حياتي الثانية (أو الأولى)، حياة الروح.
**

إن المستحيل مغرِ ولا يوجد لدي ما أخسره.
**

أنا مخلص للغاية لكنني مرتاب جدًا، وإذا فكرت بأن احدًا خانني فإنني أرد له الخيانة بسرعة، وإذا قاطعني أحد أُقاطعه فورًا. إنها موهبة مشكوك بأمرها وذات طابع برجماتي بحت.
**

خيرني أوسكار “الكاهن” بين سماع موعظة او لعب جنازة حيث كان يختفظ بنعش طفل صغير في خزانة الثياب، فقلت له أننلا لا أؤمن بالله، فحك رأسه وقال إن وجود الله مُثبت علميًا، وسرعان ما تشاجرنا، وكان أقوى مني فأمسك بذراعي ولواها وطالبني بالاعتراف بوجود الله، أحجمت عن طلب المساعدة، فمن المحتمل أن يكون أوسكار مجنونًا ولا يمكن التنبؤ بما سيفعل، واتعرفت انني أؤمن بوجود الله. بعد اعترافي جلس كل مكنا عابسًا في أحد زوايا الغرفة، ثم قلنا وداعًا وافترقنا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق